vendredi 4 novembre 2011

الخبز المر


                                  
شفيع بالزين

تنتصب مقهى سيدي منصور عمدا وبسابق الإصرار والترصد في قلب شارع باب البنات المزدحم بالمارين الكرام أو التجار المتجولين، قريبا من محطة الحافلات المرصوصة بالمنتظرين، وتتناثر مقاعدها على قارعة الطريق عمدا لاصطياد المارين وإغراء المتعبين اللاهثين وراء الخبز اليومي والنازلين من الحافلات وهم يتصببون عرقا . ورغم ذلك يبقى القهواجي خارجا داخلا بصينيته دون أن يناديه أحد أو يطلب منه شيئا.

كان المقهى خاليا إلاَّ من شيخ ألقى بجسده على أحد الكراسي منذ ساعة تقريبا دون أن يلتفت إلى النادل أو يطلب منه شيئا. كان يشيح  عنه بنظره إلى محطة الحافلات وكأنه ينتظر حافلة لن تأتي أبدا. لم يعبأ النادل نفسه بوجوده لأنه تعود على رؤيته جالسا كل يوم في نفس المكان قرابة ساعة ثم يركب الحافلة رقم 33 المتجهة إلى سيدي حسين السيجومي لكن الشيخ أطال جلوسه هذه المرة أكثر من العادة ومرت حافلته دون أن يبرح مكانه. بدا المكان غريبا عنه وكأنه يأتي إلى هذه المقهى أول مرة في حياته  .. ولأول مرة كذلك أخذ يتساءل: ماذا تراه يفعل في هذا المكان الغريب البائس؟ وإلى متى سيظل ملقى على حافة الطريق في اتنظار حافلة قد تأتي وقد لا تأتي؟ وكأنه يتذكر فجأة أنه قدم إلى العاصمة منذ عشرين سنة بحثا عن عمل وقوت للعائلة بعيدا عن قريته وأهله الطيبين.

وفجأة استيقظت ذكريات لذيذة بعد سبات طويل وأخذت الصور تصحو وتتضح شيئا فشيئا: بيوت الطوب البسيطة، وأهله الطيبون المتحلقون قرب الدكان يتسامرون ويستمتعون بشرب الشاي الأخضر اللذيذ مع كثير من النعناع الأخضر الشهي... ها أنت ذا يا إبراهيم تتذكر جيدا تفاصيل البيوت وملامح الوجوه الطيبة وتتذكر كيف كنت تعود إلى قريتك بعد شهور تقضيها بعيدا في حراسة الغابات والجبال، تعود محملا بالخضر والغلال وقراطيس الشاي والسكر وهدايا الحلوى للأطفال... تعود قاطعا كل تلك المسافة مشيا على قدميك دون تذمر أو تعب فيستقبلك أهل القرية استقبالا الأبطال الفاتحين وتقضي بينهم أياما سعيدة تقص عليهم مغامراتك وأنت تستمتع بالشاي الدافئ اللذيذ.

هل كنت تدري أنه سيأتي يوم تطرد فيه من العمل فتضطر إلى النزوح صحبة أسرتك إلى العاصمة بحثا عن عمل ومأوى؟ وهل كنت تتصور أن العاصمة التي جئتها للعمل ستهينك وتبقيك غريبا تائها بعد كل هذه السنوات؟ ها قد عشت سنوات طويلة لم تذق فيها سوى المذلة والشقاء والحرمان، وها أنت كما جئت منذ عشرين سنة غريب ووحيد ومكسور الخاطر . وهل هناك ما هو أشد إذلالا وتعاسة من أن تترك قريتك الجميلة وأناسك الطيبين وغابات الصنوبر العبقة وترضى أن تقضي حياتك في حراسة عمارة لا تعرف أهلها ولا يشعرون بوجودك بينهم؟ ما أسعدك بالأمس حارسا للغابات وبطلا في قريتك وما أشقاك اليوم حارسا لعمارة وغريبا بين أهلها.

التفت الشيخ إبراهيم إلى محطة الحافلة وكأنه يصحو من حلم طويل وجميل ودون أن ينتظر الحافلة نهض من مكانه وغادر المقهى. أخذ يسير في البداية بخطى بطيئة ثم بدأت خطواته تتسارع شيئا فشيئا، ودون أن يشعر بنفسه راح يهرول وهو يدندن ثم ارتفع صوته وهو يردد أغنية من أغانيه المفضلة "صغير وريقو شاح... جاباتو النسمة الكافية.

في ساعة متأخرة من المساء، كان الشيخ إبراهيم جالسا في زاوية من البيت وزوجته تدلك قدميه وتصب عليهما ماء دافئا، بدأ يشعر بالدفء يسري في جسده المنهك وسمع زوجته تقول في تذمر: "القسم على ربي من العاصمة وعيشتها. كلها شقاء في شقاء". شعر فجأة بتعب شديد وألم حاد في قدميه وتذكر أنه قطع كل المسافة من تونس إلى سيدي حسين مشيا ولكنه رغم التعب والألم كان يشعر بنشوة غريبة وسعادة عارمة تغمر قلبه وتدفئ روحه، وراح مرة أخرى يردد أغنيته المحببة ولكن بصوت مر حزين.

                                                           
شفيع بالزين

                                 

 

samedi 15 octobre 2011

في علاقة الشعر بالالتزام



ظلّت الممارسةُ النقديّةُ تلاحقُ الكتابةَ الشعريّةَ أو تدّعِي استباقَها واستشرافَ آفاقٍ جديدةٍ يمكنُ للكتابةِ الشعريّةِ أن تنفتحَ عليها وتغْتَنِي بها، ومازالت هذه الممارسةُ كما كانت دائما تهفُو إلى محاصَرةِ العمليّةِ الإبداعيّةِ وإدراكِ ماهيتِها والإمساكِ بآلياتِها التي بها تُفسّرُ كيفَ يكون الحدَثُ الشعريُّ وما يحدُث حين "يَمْثُلُ" الشاعرُ في "حضرةِ" الشعرِ ويعيش لحظةَ المكاشفةِ الشعريةِ.
غيرَ أنّ المسافةَ ظلّتْ قائمةً بين ما هفَا إليه النقدُ وما حقّقهُ بالفعلِ، فالشعرُ مازال نائيًا بنفسِه عن مُقرَّرَاتِ النقدِ ونظريّاتِه متكتِّمًا على أسرارِ الشعريّة فيه. ونتيجة المفارقةِ بين المتوَهَّمِ والحقيقةِ لم يستطع النقدُ أنْ يتخلّصَ عبر تاريخِه الطويلِ من متاهاتِه وأوهامِه ومغالطاتِه التي يُستباحُ الشعرُ باسمِها ويتلاشى في ما ليسَ منه. ويكفي في هذا السياقِ أن نقفَ عند مقولةِ الالتزامِ في الشعرِ، وهي ليست فكرةً حديثةً إذ حاول النقادُ القدماءُ أن يحاصرُوا الحدثَ الشعري فحصروا ماهيتَه في وظيفتِه واختزلُوا قيمتَه في ما يعبّرُ عنه من أغراضٍ وقيمٍ رتّبوها ونزّلوا القيمةَ الجماليةَ منزلةً ثانويةً وحوّلوها إلى وسيلة فطوَّعوا ما هو جميلٌ لما هو نافعٌ. وقد عبّروا عن هذه المقاربةِ بتصنيفِ الشعر القديمِ وفق أغراضٍ متعدّدةٍ لكنها قابلةٌ للاختزالِ في غرضيْن كبيريْن ومتعارضيْن هما المدحُ والهجاءُ اللذان تعاضدَا لينهَضَا بوظيفةٍ رئيسيةٍ هي مدحُ الفضائلِ المتَّفَقِ على تمجيدِها وذمُّ الرذائلِ المتَّفَقِ على تحقيرِها. وهذا يعني أنّ "الغرَضِيَّةَ" التي تحكّمت في "صناعةِ" الشعرِ القديمِ ونقدِه لم تكن طريقةً في بناء القصيدةِ أو موضوعًا لها بقدر ما كانت طريقةً في الحضور في الكونِ وتعبيرًا عن هيمنةِ الرؤيةِ البيانيةِ على تصوُّر العربِ للكلامِ ووظيفتِه عموما.
ولئن بدا للبعض أنّ الشعراءَ والنّقّادَ المعاصرين قد تحرّروا من هذه الرؤيةِ وحرّروا الشعرَ من الغرضيةِ وتجاوزوا الوظيفةَ إلى الماهيةِ وتحوّلوا من الشعرِ إلى الشعريةِ، إلا أنّ المتمعّنَ في العديدِ من الكتاباتِ الشعريةِ والنقديةِ المعاصرةِ يستنتجُ أنّ المجاوزَةَ شكليّةٌ ومحدودةٌ وأنّ النظريةَ الشعريةَ القديمةَ بقيت ممتدّةً ومندسّةً في ثنايا المدوّنَةِ الشعريةِ والنقديةِ المعاصرةِ تعبّر عن نفسِها بأشكالٍ ومفاهيمَ مختلفةٍ لعلّ أبرزَها ما يُسمَّى بالالتزامِ. ومع أنّ العديدَ من النقّاد والشعراءِ المعاصرين رفضُوا تواصلَ الغرضيّةِ وتمرّدوا على مقولةِ الالتزامِ في الشعر واعتبروه إلزامًا للشاعر وتقييدًا للإبداع وحكمًا على الشعرِ بمفاهيمَ ومقولاتٍ غريبةٍ عنه تجعله يتلاشى في ما ليس منه، وحاولوا تشغيلَ مفاهيمَ أخرى مثلَ حريةِ الإبداعِ والصدقِ والتجربةِ والحسِّ الشعري والتفاعلِ والرؤيةِ أو الرؤيا وغيرِها من المقولاتِ... وهي في نظرهِم تَحمي الشاعرَ والشعرَ من الوقوعِ في خطاباتٍ غيرِ شعريةٍ كالخطابِ السياسي والإيديولوجي. غير أنّ السؤالَ الذي يبقى قائما هو: إلى أيّ حدٍّ تخلّصت الكتابةُ الشعريةُ والنظريةُ النقديةُ المعاصرتان من الرؤيةِ البيانيةِ القديمةِ واستطاعتا تحقيقَ حداثةٍ حقيقيةٍ؟
ومادام سؤالُ الحداثةِ يفضي بنا إلى سؤالِ الشعريةِ تكونُ الأسئلةُ المطروحةُ هي: كيف تتحدّدُ درجةُ الشعريةِ في النصِّ الشعريِ العربيِ الحديثِ؟ وهل تُوجَد معاييرُ شعريةٌ دقيقةٌ (علميةٌ أو عالميةٌ؟) تُقاسُ بها شعريّةُ النص؟ وحتى إذا افترضنا وجودَ هذه المقاييسِ فمن الذي يحدّدُها وكيف تُطَبَّقُ دون إلغاءِ ما به يكون النصُّ شعريًّا: فرادته ودرجة العدول وكثافة الانزياح فيه؟
على مَن يتبنَّى فكرةَ الالتزام أنْ يجيبَ أوّلا عن هذه الأسئلةِ إجاباتٍ متأنّيةٍ ومقنعةٍ ثم عليه بعد ذلك أن يحدّدَ مفهومَ الالتزام الذي يدعُو إليه ويفسّر بشكلٍ واضحٍ ما يقصد بهذا المفهومِ، إذ الشعرُ لا يأتي من الفراغِ ولا كتابةَ بدون مضمونٍ أو قضيةٍ ما. لا وجودَ لشعرٍ "صافٍ" أو "شعرٍ للشعرِ" فالشاعرُ مهما أوغلَ في الغموضِ والرمزِ والتعقيدِ لا يكتُبُ لمجرّدٍ الرغبةِ في الكتابةِ وإنما يكتُبُ لأنّ له ما يقولُ بغضّ النظرِ عن مضمونِ القولِ وغرضِه. إنه دائما يقولُ شيئًا ما حتّى إذا كان هذا "الشيءُ" غامضًا لا يمكنُ أن يسمَّى أو يحدَّدَ. وليسَ صحيحًا ما ذهبَ إليه الجاحظُ من أنَّ المعانيَ مطروحةٌ في الطريقِ وأنّ فضلَ الشاعرِ في اللفظِ وطريقةِ التعبيرِ عن المعنى لأنّ الشاعرَ لا يقولُ المعنَى المطروقَ والمُلقَى في الشارع بل يبدعُ "المعاني الدِّقاقَ" بعبارة المتنبّي ويخلُقُ فضاءً دلاليّا وتخييليًّا جديدًا حتى وإن كانت المادةُ اللغويةُ التي يشكّلُ بها هذا الفضاءَ معروفةٌ ومشترَكةٌ. وقد تكون فكرةُ الالتزام مطلوبةً في الفعل السياسي والنضالي ولكنْ كيفَ نطلُب من الشاعرِ أن يكون ملتزمًا ومبدعًا في نفس الوقت، والحالُ أنَّ الإبداعَ حُرّيةٌ أو لا يكونُ؟
وقد يرَى البعضُ أنّ الالتزامَ والإبداعَ لا يتعارضان وهو في ذلك يستحضر تجاربَ شعريةً لكبارِ الشعراءِ المعاصرين أمثالِ محمود درويش ومعين بسيسو وسميح القاسم ومظفر النواب وغيرهم كثيرون، فيُعرّف الشاعرَ المبدعَ تعريفًا سياسيًا بأنه من يُعبّر عن قضايا أمّتِه ويصوّر معاناةَ شعبِه وتطلّعاتِه. والسؤالُ المطروحُ هو: أكانَ هؤلاء الشعراءُ مبدعين لأنهم ملتزمون أم كانوا ملتزمين لأنهم مبدعون؟ وإذا كان لا بدّ على الشاعر أن يكون ملتزمًا فبِمَ يلتزمُ؟ المهمُّ أنّ الالتزامَ في الشعرِ- إن كان لا بدّ منه- يجب أنْ يتخلّصَ من مدلولِه السياسيِ المباشرِ والضّيّقِ إذ هو لا يعني اعتناقَ الشاعرِ إيديولوجيَا سياسيةً أو فكريةً والنضالَ من أجلها وتسخيرَ القصيدة لتكون أداةً من أدواتِ النضالِ وسلاحًا من أسلحة الصراعِ لأنّ هذا الفعلَ قد يجعلُ من "الملتزمِ" مناضلاً كبيرًا ولا يجعلُ منه شاعرا مبدعًا، والأمّةُ قد تربَحُ رمزًا وطنيًا وتخسَرُ شاعرًا عظيمًا. وقد تكون الرؤيةُ السياسيةُ التي يتبنّاها الشاعرُ رافدًا من روافدِ القصيدةِ ولكنْ حين تكونُ هذه الرؤيةُ متحكّمةً فيها وموجّهةً لها ومُحدّدةً لمضمونِها واتجاهِها يصبحُ الشعرُ مُهدَّدًا بالانكفاءِ والتلاشِي في ما ليسَ منه، إذ من الضّروري أنْ تَخضعَ الرؤيةُ السياسيةُ للرؤيةِ الشعريةِ لا العكسُ، فالشاعرُ لا يكتفي في رؤيتِه بالتعبيرِ عن اليومي المباشِرِ المُتغيّرِ، ولا يقنعُ في خطابِه الشعري بما هو تقريري وتحريضي.. إنّ الشاعرَ ملتزمٌ أبدًا، غير أنّ الالتزامَ في الشعرِ لا يكون إلا التزامًا بالشعرِ، والإيديولوجيا الوحيدةُ التي يتبنّاها الشاعرُ هي إيديولوجيا الإبداعِ: عليه أن يُخضع شعرَ السياسةِ لسياسةِ الشعرِ. صحيحٌ أنّ الشاعرَ كغيره من الناس ذاتٌ منخرطةٌ في حركة التاريخ ومتفاعلةٌ مع الواقع تأثّرا وتأثيرا، إلا أنّه حين يمْثُل في حضرة الشعر ويُطلُّ على مدارِه ويُكاشفه يُحوّل العاديَّ واليوميَّ إلى مُطلَقٍ ورمزيٍ ويحاول بلغة الشعر أن يقولَ الغيابَ والمتخفّيَ ويلتقطَ ما يقبَعُ وراءَ سطحِ الواقعِ من أسطوري وإنساني وجوهري. إنه قدَرُ الشاعر أن يكون هناك في المابيْن: لا هو يَحْجِبُ الواقعَ ويطمسه ويُهمله ولا هو يتلاشى فيه. إنه في حركة جدلية مستمرة تظل فيها القصيدةُ تراوُحًا دراميا بين اليومي والأبدي وبين الواقعي والأسطوري، وبين المباشر والرمزي. ومن هذا المنطلق أخذ النقدُ الحديثُ يرصد هذه الحركة المتوتّرةَ في القصيدةِ الجديدةِ ويستعمل من أجل ذلك مصطلحاتِ ومقارباتِ أخرى تدور حول معاني الانحرافِ والانزياحِ والفجوةِ ومسافة التوترِ... هكذا أخذ النقدُ يعيدُ النظر في فهمه للنص الشعري ويعيدُ صياغة مفاهيمه ومصطلحاته ويؤسّس لنظرياتٍ تراعي خصوصيةَ الكتابةِ الشعريةِ المفتوحةِ دوما على المجاوزةِ والتجريبِ والمتمرّدةِ على كل أشكال القهرِ والقمعِ والاستباحةِ والإكراهِ... وعدمِ الوصول لأنّ "أيَّ وصولٍ وَأْدٌ للقصيدة فقدَرُ الشاعر أن يواصلَ السفرَ ويستخلصَ من الدروب دروبًا... هذا هو قدَرُ الشاعر وعذابُه، وهذا هو امتيازُه أيضا" كما يقول محمود درويش نفسُه.                       


vendredi 10 juin 2011

المقاربة التداولية للخطاب الأدبي


 تـــمـــــهـــيــد:
       من الدّوافع الحافزة على الاهتمام بالمقاربة التداولية للخطاب الأدبي أنها لم تقصر اهتمامها على مجال الدراسة اللغوية وتحليل الخطاب في مستوى الاستعمال العادي أو التواصلي، بل وسّعت من مجال اهتمامها ليشمل تحليل الخطاب الأدبي، وعملت على تطوير مفاهيمها النظرية وأدواتها التحليلية لتوائم هذا "الاستخدام" المخصوص للغة. ولئن انصرفت البحوث التداولية في البداية إلى الاهتمام بالنصوص الأدبية التي تتلاءم مع منهجها وهي النصوص التي تنتمي إلى الأجناس "البسيطة" أو الثانوية باعتبارها نصوصا قريبة من المخاطبات العادية التي يطغى عليها البعد التواصلي البراغماتي، ولاسيّما الرسائل بمختلف أجناسها[1]، إلا أن التداوليّين قد وسّعوا بعد ذلك مجال اهتمامهم ليشمل نصوصا أدبية متنوّعة وظهرت دراسات تداولية تنظّر للخطاب الأدبي عامة وتعيد طرح قضاياه المعروفة من وجهة نظر مغايرة[2]، أو تتناول نصوصا أدبية مختلفة بالتحليل والتأويل. ولا يخفى أنّ التداولية باعتبارها منهجا في التحليل الأدبي وجدت معارضة من البنيويين والأسلوبيين والإنشائيين بسبب مخالفتها لهذه المناهج في التعامل مع النص الأدبي. والاعتراض على المنوال التداولي في تحليل الخطاب الأدبي هو اعتراض على ما بين الموضوع والمنهج من تعارض، فمن ناحية يغلب على المنهج التداولي الانصراف إلى تحليل الكلام في بعده التواصلي والإنجازي، ومن ناحية أخرى يغلب على الخطاب الأدبي أنّ قيمته في ذاته لا في وجوه استخدامه. وقد انتهى النظر في هذه المسألة بأحد الباحثين إلى القول "إنّ الرغبة في الوصل بين التحليل التداولي واللغة الأدبية تمثل تحديا وتفضي إلى ما يشبه المفارقة (...) وذلك لأن التداولية تتعلق بتحليل اللغة "العادية" ودراسة الحياة اليومية، أما الأدب فيستعمل خلافا لذلك خطابا تخييليا يحيل على الحياة المتخيلة"[3].
       وقد اتجهت جهود التداوليين لتجاوز هذا التعارض (أو التخفيف من حدّته) اتجاهين في آن واحد: اتّجاها يسعى إلى تقريب المنهج التداولي من النص الأدبي، وذلك بالتعديل في مفاهيمه وأدواته وتطويعها لتلائم خصوصية الخطاب الأدبي، وبالوقوف على المعطيات اللسانية والبلاغية أو الانطلاق منها في التحليل، واتجاها يسعى إلى تقريب النص الأدبي من المنهج التداولي، وذلك بتغيير النظرة السائدة إلى الأدب (باعتباره خطابا بلا مرجع ولا سياق مثلا) ونقد المقاربات الأخرى (كالبنيوية والأسلوبية والإنشائية)، وإكساب بعض المصطلحات النقدية والمفاهيم الأدبية المتداولة مدلولا جديدا (الأسلوب، البلاغة، الانزياح، الانسجام) أو إقحام مفاهيم وأبعاد جديدة في فهم النص الأدبي وتأويله كانت مستبعدة (المؤلف والمتلقي والسياق والمرجع والذاتية والمقاصد والتواصل) على نحو يجعل المقاربة التداولية للأدب ممكنة بل ضرورية. وقد توصّلت البحوث التداولية إلى إرساء مفاهيم ومقولات أساسية في مجال تحليل الخطاب الأدبي أبرزها:
1. الخطاب الأدبي خطاب في سياق:
       من نتائج فصل دي سوسير بين اللغة والكلام أو بين الجملة والخطاب ظهور المنهج البنيوي في تحليل النصوص السردية والذي أرسى دعائمه رولان بارط (Roland Barthes) في كتابه "مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص"[4] حيث يفصل بين القصة والمرجع أو السياق وينظر إليها نظرة لسانية باعتبارها جملة كبيرة نظامها متجانس ومتكوّن من مستويين: مستوى الخطاب (الدال) ومستوى الخبر أو الحكاية (المدلول)، ويذهب إلى أنه لا يمكن تجاوز هذين المستويين دون أن نتجاوز النظام السردي إلى أنظمة أخرى من طبيعة غير الطبيعة القصصية (اجتماعية، اقتصادية، تاريخية، إيديولوجية). ولذلك كان من أوّل مهام المناهج اللسانية غير البنيوية ولاسيّما التداولية وهي تقتحم مجال التنظير للنصوص الأدبية وتحليلها أن تعمل على تجاوز التحليل البنيوي وذلك بالتأكيد على أنّ كلّ نص هو نص في السياق. وقد وجد التداوليون في السيميائية خلفية نظرية غير النظرية البنيوية، لأنّ السيميائيين أرسوا منهجهم على أساس التمييز بين ثلاثة مستويات أو علاقات للعلامات وهي المستوى النحوي الذي يخصّ علاقات العلامات فيما بينها، والمستوى الدلالي الذي يخصّ علاقة العلامات بالمرجع والمستوى التداولي الذي يخصّ علاقة العلامات بالمستعمل أو المؤوِّل. وانطلاقا من ذلك تجاوزت التداولية التعامل البنيوي مع النص باعتباره نظاما (مستقلا عن السياق أو المرجع) إلى التعامل معه باعتباره خطابا أو عملا لغويا مرتبطا بمقام ومنتَجا في سياق. ولئن اختلف التداوليون في تحديد عناصر  المقام المتدخّلة في إنتاج النص الأدبي ودلالاته فإنهم لم يخرجوا عن العناصر التسعة التي حدّدها ديتر فوندرلخ (Dieter Wunderlich) باعتبارها العناصر الأساسية المكوّنة لما يسمّيه بـ"المقام التلفّظي النموذجي"، وهي المخاطِب والمخاطَب وزمن التلفّظ ومكانه وخصائص الملفوظ الصوتية والنحوية ودلالية التلفّظ والمسلّمات المسبقة (معارف المتخاطبين وقدراتهما وعلاقتهما الاجتماعية) ومقصد المخاطِب التواصلي والتعامل الذي يساهم التلفّظ في بنائه[5].
       ولئن أقرّ الباحثون التداوليون باختلاف الخطاب التواصلي أو الإبلاغي عن الخطاب الأدبي في مستوى علاقة الخطاب بالواقع أو كيفية إحالته على السياق ودرجة حضور عناصر المقام فيه، فإنّ هذا الاختلاف لا ينفي أن يكون للنص الأدبي مقامه أو سياقه الخاص به. فالمتكلم والمخاطب مثلا يمكن أن يغيَّبا في المستوى اللساني أي  الخطاب أو النص تغييبا مقصودا لعدم توفّر قرائن لفظية دالة عليهما، ولكنهما يبقيان مع ذلك حاضرين في المستوى التداولي. إنّ الكاتب يمكن أن يختفي باعتباره متلفّظا حقيقيا ويبقى حاضرا من خلال "العقود" التداولية النحوية والدلالية التي تنتظم الخطاب. وانطلاقا من هذا المنظور أعيد تأويل بعض النظريات الأدبية/ التواصلية القائمة على المقابلة بين النص الأدبي والنص الإبلاغي. من ذلك أنهم ذهبوا إلى أنّ مخطط جاكبسون (Jackobson) التواصلي يميّز الخطاب الأدبي على أساس أنّ الوظيفة الشعرية هي الوظيفة المهيمنة على الوظائف الأخرى، ولكنه غير مقصود منه أنّ هذا الخطاب بلا مرجع أو سياق، بل المقصود أنّ الباثّ يركّز اهتمام المتقبّل على الرسالة في حدّ ذاتها. وحين نذكر الباث والمتقبّل والرسالة والوظيفة فقد ربطنا النص الأدبي بجملة من العناصر المقامية وإن كان حضورها فيه مختلفا. ومن ذلك أيضا النقد التداولي الموجّه إلى ريكاردو (Ricardo) لتمييزه بين الخطاب الأدبي والخطاب الإبلاغي على النحو التالي[6]:

            الخطاب الإبلاغي
            الخطاب الأدبي
- اللغة باعتبارها وسيلة.
- الإخبار عن العالم.
- الأساسي خارج اللغة.
- تبليغ موضوع محدّد مسبقا.
- اللغة باعتبارها مادّة.
- إعادة تشكيل العالم أو التساؤل حوله.
- الأساسي هو اللغة نفسها.
- موضوع الخطاب هو الناشئ مع الخطاب.
       ووجه الاعتراض على هذا التقابل أنه لا ينطبق على مطلق الخطاب الأدبي أو على جميع أصنافه إذ يمكن أن يكون المرجع والوظيفة الإبلاغية حاضرين بوضوح في نصوص أدبية عديدة. ولا شك في أنّ التداولية لا تنفي أنّ إحالة الخطاب الأدبي على المقام غير مباشرة غالبا، إلا أنه في أغلب الحالات يحمل آثار السياق الذي كتب فيه وتحضر فيه بعض عناصر المقام التخاطبي أو الوضعية التلفظية التي يجب أن تكون إطارا للتواصل بين منشئ النص والقارئ. ومع أنّ التواصل غير مباشر، ففي ذهن الكاتب دائما ملامح قارئ معيّن يفترض أنه يشاركه في المراجع التي يحيل عليها في نصه. ومن الصعوبات التي اعترضت التداولية في سعيها إلى التعامل مع النص الأدبي باعتباره نصّا ذا سياق، تطبيق هذا المفهوم على النص الشعري. فهل يمكن أن نتحدّث عن سياق النص الشعري؟
يذهب محمد خطابي في محاولة للإجابة عن هذا السؤال إلى أنّ "الخطاب الشعري [رغم أنه] متحرّر من قيود السياق" إلا أنّ "الشاعر مرغم على استعمال خيالي لمقتضيات السياق من أجل خلق مقامات داخل قصيدته. ومن هنا لا بد من التمييز بين السياق المعطى وبين السياق المستنبط أو السياق الداخلي"[7]، ويخلص من ذلك إلى أنّنا "لا نستطيع أن نلغي وظيفة التواصل في الأدب. إمّا أن نعتبر النص الشعري منغلقا على نفسه لا يحدّث إلا نفسه، وإمّا أنّ النص الشعري فعل تواصلي وفي هذه الحالة لا بدّ من سياق"[8]. ومع أنه يميل إلى القول بضرورة السياق، فإنه يقرّ بخصوصيته في النص الشعري ويعرّفه بأنه "جهاز من المعلومات الخارج نصية المعقودة في النص كتقليد أدبي أو كاقتضاء سياقي"[9]، وهو ما يفضي إلى القول بأنّ "البحث عن السياق الأدبي ينبغي أن يعتمد فيه على النص نفسه إذ أنّ هذا الأخير يبني هذا السياق طوعا أو كرها من أجل أن يحيا كنص"[10].
2.  الخطاب الأدبي خطاب ذو مقاصد:
       مثلما ذهب التداوليون إلى أنّ النص الأدبي هو نصّ في سياق انطلاقا من قاعدة "لا نصّ بدون سياق" ذهبوا كذلك إلى أنّ النص الأدبي هو نصّ ذو مقاصد انطلاقا من قاعدة "لا نصّ بدون مقاصد". لاسيما بعد أن انتقلت "المقصدية" من نظرية في الفلسفة الظاهراتية (هوسرل) إلى مقولة أساسية من المقولات التداولية، و"تحوّلت مقاصد التكلّم في الدراسات التداولية الحديثة إلى منطلق أساسي من منطلقات تحديد الخصائص الإنشائية في الخطاب"[11]. وأوّل تَحَدٍّ واجه التداولية في ربطها النصّ الأدبي بمفهوم المقصدية هو مفهوم "الأسلوب" الذي يُعَدّ مفهوما مضادّا له ولا يمكن تجاهله باعتباره مقوّما أساسيا في النص الأدبي، لاسيّما وقد نشأ عن الاهتمام المتزايد به منهج قائم بذاته ومخالف للتداولية هو الأسلوبية، الذي لئن تراجع حضوره مقارنة بحضور مناهج أخرى كالنصّانية والإنشائية فإنه مازال منهجا معتمدا في التحليل الأدبي وله أنصاره ومنظروه. ولتحقيق نوع من المواءمة بين المفهومين ذهب التداوليون إلى أنّ تصوّر الأسلوب على أنه انزياح انطلاقا من ثنائية النمط والعدول أو الاستعمال العادي والاستعمال الأدبي هو تصوّر مفتعل ولا أساس له من الصحّة لعدم إثبات وجود نمط أو معيار تقاس به الانحرافات. هذا فضلا عن أنّ ليس كلّ انحراف أسلوبا (أدبيا) وليست كلّ لغة عادية خالية من الانحراف. ولا معنى لاعتبار الأسلوب مسألة انزياح بالنسبة إلى نمط معطى أو قاعدة متحققة بالقوّة دون تحديد طبيعة النمط أو القاعدة ووظيفة الانزياح. والأهم من الوقوف على إنشائية النصوص الأدبية ومقوماتها الفنية الكامنة في لغتها تبَيُّنُ أغراض القول المقامية أو الاستراتيجية الخطابية للنص بما هو قول، وهذا ما تحاول التداولية التوصّل إليه. إنّ فهم ملفوظ ما- بما في ذلك الملفوظ الأدبي- يقتضي أن نسند إليه مقصدا. وإذا كان للمقصد الأسلوبي خصوصية فهي راجعة إلى كونه يدخل في نوع المقاصد التي تمكّن من تفسير سلوكات غير تواصلية[12]، وإلى كونه مقصدا "غير منفتح" أي لا يتوقف نجاحه على اعتراف المتقبّل به، في حين أنّ المقصد التواصلي مقصد "منفتح" يتوقّف تحقّقه على اعتراف المخاطب به وعلى ضرورة وجود مراجع مشتركة يعتمد عليها المتكلم لتبليغ مقاصده[13].
3..  الخطاب الأدبي خطاب تواصلي:
       يتداخل في خطاب المتكلم أكثر من مقصد، لكنّ المقاصد التي اهتمّ بها التداوليون هي المقاصد المتعلقة بالخطاب أو التخاطب في بعده التواصلي، نذكر منها:
- المقصد اللساني الذي يظهر في التحوّلات الخطابية التي لا تحيل على الحدث في حدّ ذاته بل تحيل على عزم المتكلّم ونيّته السابقة (عزم، نوى، قرّر، أراد، حاول، قصد).
- المقصد التواصلي الذي يهدف من خلاله المتكلّم ربط ميثاق تواصلي مع القارئ من داخل الخطاب نفسه. وأغلب التداوليين يشترطون في عملية التواصل مع القارئ مقصدية تواصلية مسبقة، فلكي يسهل على القارئ فهم دلالة الخطاب ينبغي عليه أوّلا أن يدرك المقصدية التي تنظمه وتوجّه مغزاه.
- المقصد التداولي الذي يتمثل في مختلف الشروط الاستراتيجية التي يقصد إليها المتكلم في عملية تخاطبه مع القارئ، والهدف منها مساعدته وتوجيهه التوجيه الصحيح لفهم دلالة النص أو تأويله تأويلا يلائم سياقه الخطابي، ومعرفة هذه المقصدية ضرورية في العملية التداولية.
- المقصد الحواري الذي يتعلق بالوعي الحواري الذي يجسّده الكاتب في خطابه الروائي لإنشاء حوار ثقافي وللخروج من دائرة الذاتية أو الصوت الواحد للانفتاح على الآخر.
       غير أنّ المفاهيم المقصدية من خلال ما سبق بقيت مقيّدة ومحصورة في المتكلم وعلاقته بالخطاب، ولذلك ظهرت اتجاهات أخرى تنادي بتوسيع مفهوم المقصدية لتشمل المتكلم والمخاطب معا، من ذلك أنّ جيرار جينات (Gérard Jenette) يميّز بين المقصدية المتعلقة بالذات المنتجة للخطاب ويسميها "مقصدا" (intention) والمقصدية المتعلقة بالذات المتلقية له ويسمّيها "اهتماما" (attention وهذا يعني أنّ المتلقي "يمارس" أيضا نشاطا مقصديا سواء تجاوب مع مقصدية الباث أو لم يتجاوب معها[14]، وينشأ عن المقصدية الأولى في العمل الأدبي علاقة فنية (artistique) وعن المقصدية الثانية علاقة جمالية (esthétique). ومن الواضح أنّ البعد التواصلي الذي يتحقّق من خلال مفهوم المقصدية لا يقتصر على الخطاب العادي بل يشمل الخطاب الأدبي، وإذا كان الخطابان يشتركان في المقصد اللساني والمقصد التواصلي والمقصد التداولي، فإنّ الخطاب الأدبي ينفرد بالمقصد الحواري والمقصدية المزدوجة التي ينظّر لها جينات. ولكنّ التسليم بحضور البعد التواصلي في الخطاب الأدبي يقتضي تبيّن طريقته المخصوصة في التواصل مع القارئ (مقارنة بالخطاب العادي). وإذا كان الجميع يسلّم بأنّ التواصل في الأدب غير مباشر فكيف يتواصل الكاتب مع القارئ في النص الأدبي؟
       يتحقّق التواصل الأدبي وفق المنظور التداولي من خلال مفاهيم وآليات استخدمتها التداولية في تحليل النصوص الأدبية، من أبرزها مفهوم التعاون بين الكاتب والقارئ أو "الميثاق الأدبي". ومفهوم التعاون الذي أرساه غرايس باعتباره مبدأً من مبادئ التخاطب يتحقّق من خلال حسن ظنّ المخاطب بالمتكلّم وافتراضه أنّ الخطاب منسجم كيفما كانت طريقة تقديمه. وقد تحوّل هذا المفهوم بعد ذلك من مبدأ ينظّم عملية التخاطب إلى آلية من آليات النص الأدبي يستمدّ منها انسجامه ويحقّق التواصل مع القارئ. وقد اعتبر دومينيك مانغينو[15] هذا التعاون ضربا من "الميثاق الأدبي" الضمني الذي على أساسه يوجّه الكاتب خطابه إلى قارئ ضمني أو مفترض يتقاسم معه معرفة خلفية ومجموعة من المراجع والمعايير والافتراضات المسبقة بالإضافة إلى التقاليد الأدبية والمعلومات التي يوفّرها الكاتب للقارئ في نصه لإنجاح العملية التواصلية. إنّ مفهوم "القارئ المتعاون" يعني أنّ تفكيك النص هو نشاط تعاوني لا يقف على مقاصد الكاتب بل على القرائن التي يوفّرها في النص ليساعد القارئ على فهم النص ويوجّهه إلى مفاتيحه. ومن هذا المنطلق يمكّن النشاط التعاوني القارئَ من استخلاص ما لا يقوله النص صراحة وملء فراغاته على نحو يحدث فيه أثرا محدّدا من خلال ما يسمّيه مانغينو بـ"التعاون التأويلي"، وهو تعاون الكاتب والقارئ على تحقيق التواصل الأدبي: تعاون الكاتب بما يضعه في النص من قرائن ومعلومات وما يبنيه من استراتيجيا خطابية لتوجيه الفهم والتأويل وإحداث أثر تداولي ما، وتعاون القارئ بالمجهد الذي يبذله في الفهم والتأويل. ولكنّ السؤال الذي طرح على التداوليين هو: إذا كان الخطاب الأدبي يؤدّي وظيفة تواصلية، فلمَ يستخدم الضمني (l’implicite) الذي يقتضي من القارئ جهدا تأويليا قد يكون عائقا دون التواصل؟
       يرى التداوليون أنّ الضمني ليس من باب الاقتصاد في القول أو الترف الأسلوبي، وإنما هو من الوسائل التي تقوّي عملية التواصل بين الكاتب والقارئ وتحقّق مبدأ التعاون، وذلك أنّ مجهود القارئ في الفهم والتأويل لا يولّد لديه شعورا باللذة فحسب، بل يجعله يشعر بمشاركة المؤلّف في إنتاج دلالة النص ولا يكتفي بالكشف عن دلالة النص الكامنة فيه، وهذا ما ذهب إليه جيرار جينات كما أوضحنا من اعتبار دلالات النص الأدبي نتاجا لالتقاء مقصدية الكاتب واهتمام القارئ، بل إنّ فان ديجك (Van Dijk)- وهو من أبرز المنظّرين للتداولية الأدبية- يذهب إلى أنّ الدور الموكل إلى القارئ أكبر من دور الكاتب فـ"بينما يبدو المؤلف حرّا في تحديد بناء ملفوظه فإنّ القارئ هو المطالب بالتعاون بالشكل الأقصى (يتعرّف على معلومة إضافية- يقدّم تفسيرات جديدة- يفترض فرضيات)"[16].  
4.. الخطاب الأدبي عمل لغوي مخصوص:
       ومن المفاهيم التي أقحمتها التداولية في تحليل الخطاب الأدبي الملفوظ الأدبي باعتباره "عملا لغويا". ولا شكّ في أنّ هذه النظرة إلى النص الأدبي قائمة على مفهومين أساسيين من مفاهيم التداولية وهما "الملفوظ" و"العمل اللغوي". أمّا الملفوظ فيختلف عن الجملة بكونه نتيجة للتلفّظ بجملة يتغيّر معناها التداولي بحسب السياق الذي تستعمل فيه، وتنقل ما يريد المتكلم إبلاغه. وهذا ما يجعل دراسة الملفوظ من مشمولات التداولية، في حين أنّ الجملة هي متتالية من الكلمات لا تتغيّر بتغيّر السياق الذي يستعمل فيه، لأنها محدّدة ببنيتها النحوية وبقيمتها الدلالية باعتبارها نتاجا لمدلولات الكلمات التي تكوّنها، وهذا ما يجعل دراستها من مشمولات اللسانيات. وأمّا مفهوم "العمل اللغوي" (acte de langage) فهو نوع من الملفوظات التي سمّاها أوستين بالملفوظات  الإنجازية (énoncés performatifs) وهي ملفوظات لا تصف أو تمثل حالات الأشياء والأحداث والأشخاص وليس لها مرجع خارج العالم اللغوي في الواقع المعيش فهي تحيل على المعنى التداولي للجملة وتعبّر عن استعمالها من طرف المتكلمين. ومثلما ساهم مفهوم الملفوظ أو التلفّظ في ربط الخطاب بالسياق ساهم مفهوم العمل القولي أو اللغوي في ربط الخطاب بالبعد التواصلي. فهابرماس (Habermas) صنّف الجمل الإنجازية حسب المعنى التداولي الذي تعبّر عنه، ومنها "الأعمال التواصلية" وهي الأعمال اللغوية التي ينجز بها المعنى التداولي للتلفّظ أي تفسّر الملفوظات باعتبارها ملفوظات (قال، تكلم، طلب، عارض). وأوستين (Austin) صنّف الأعمال اللغوية ثلاثة أصناف وهي أفعال الإنجاز وهي متصلة بقيمة الملفوظ نفسه (وعد، توكيد، طلب) وأفعال التأثير بالقول وهي مقاصد محدّدة صريحة أو ضمنية تالية للملفوظ ومتسبَّبة عنه (طمأنة، تخويف، تشجيع) وفعل القول وهو الجانب الصوتي والتركيبي للملفوظ ومعناه في السياق[17].
       ومثلما تحوّلت التداولية في مراحل معيّنة إلى نظرية في السياقات تبحث في سياق الإنتاج والاستقبال، ثم إلى نظرية في الأعمال اللغوية[18]، تطوّرت كذلك من المجال اللغوي إلى المجال الأدبي، وأصبح فهم الخطاب الأدبي انطلاقاً من ارتباطه بالسياق وبعده التواصلي. وقد كان لفان ديجك (Van Dijk) دور في توسّع التداولية لتبنّي نظرية أدبية عامة تشتمل على نظرية للنصوص الأدبية ونظرية للتواصل الأدبي. والهدف من هذا التحوّل هو أن لا تبقى نظرية الأدب منحصرة في وصف مجموعة محتملة من الأشكال بل أن تشتمل على نظرية في "الأعمال اللغوية" الأدبية أيضا، وذلك لأنّ دراسة مقصورة على الأشكال تؤدّي غالبا إلى نظرية قابلة للتطبيق على وقائع غير أدبية (أيضا) أو نظرية لا تنطبق على كل الوقائع الأدبية[19]. ووفق هذا الهدف، أصبحت التداولية مدعوّة إلى المساهمة في تعديل النظرة إلى العمل الأدبي ليكون عملا لغويا لا يخرج عن نظرية الأعمال اللغوية التي لا تحصر قيمة القول داخل العالم اللساني بل تنظر إلى بعده العملي وعلاقته بالسياق والاستعمال. وهذا يعني أنّ العمل اللغوي حتى المتّسم بكونه أدبيا هو تأثيري أو لا يكون، فالأدبية أيضا إنجازية وإن كانت إنجازية مطلقة للغة[20]. ولكنّ النظر إلى الملفوظات الأدبية على أنها أعمال لغوية يقتضي الوقوف على ما يميّزها عن الأعمال اللغوية العادية. وقد خصّص فرنان هالين (Fernand Hallyn) فصلا من كتابه "التداولية"[21] للنظر في الملفوظ الأدبي باعتباره عملا لغويا مقارنة بالملفوظ العادي، فتوصّل إلى أنّ له خصائص منها أنّ الملفوظية الأدبية خلافا للملفوظية العادية التي تتعلق بإنجاز عملية ذات مقصد محدّد تنتهي بإنجازه، تمارس قوتها ضمن عدد غير محدّد من السياقات لدى عدد غير محدود من الأشخاص، فهي مجعولة لإعادة تحقّق لانهائي[22]. وهذا ما يجعل فعل الإنجاز الأدبي يظهر بوصفه ملفوظية متحرّرة من زمانية مقيّدة وبدلا من التدخّل ثم التلاشي، تضاعف الملفوظية الأدبية الأعمال اللغوية ضمن التشابه والاختلاف. ومن طرق تحرّر الملفوظية الأدبية من السياق المحدود إسناد تأثيرات متعدّدة إليها عبر التاريخ. ومن خصائصه كذلك أنّ القوّة الأساسية التي تستند إليها الملفوظية الأدبية هي تلك المتعلقة بطريقة تقديمها الخاصة، وإمكانية التشكيل الأدبي أن يتلاعب بأداة الاتصال (اللغة) وبالشروط التداولية لاستخدامها وأن يتصرّف بالمضطلعين بالاتصال وبقيمهم ومعاييرهم وكذلك بالعلاقات بين الذاتية[23]. وللملفوظ الأدبي خاصية أخرى تتعلّق بمفهوم التعاون إذ رغم نزوعه عادة إلى خرق هذا المبدأ من خلال مظاهر الانحراف والضمني وعدم توفر المعلومات الكافية عن السياق، فمن الممكن أن لا تؤدّي تجاوزات ظاهرة لقاعدة محدّدة إلى الإضرار بمبدأ التعاون وذلك لأنها تتمّ بشكل يتمكن فيه المتلقي من المواءمة بين الاختراق الظاهر والاحترام الحقيقي للتعاون. إنّ المتلقّي لنص أدبي ما لديه ميل للبحث في تفسير كلّ اختراق ممكن بوصفه تضمينا مقصودا أي تجاوزا ظاهريا يندرج ضمن توافق تعاوني عميق[24].   
5. الخطاب الأدبي خطاب حواري:
       اتّخذت دراسة الخطاب الأدبي باعتباره حوارا بعدين رئيسيين: بعدا تداوليا حجاجيا من خلال مفهوم "التوجيه الحجاجي" وبعدا أدبيا من خلال مفهوم "الحوارية". أما الاتجاه الحجاجي في تحليل الخطاب الأدبي فينطلق أصحابه من القاعدة التي ترى أنّ كلّ خطابٍ حواريٌّ بالضّرورة ليؤكّدوا على أنّ وظيفة التكلم الأساسية هي الحجاج، وأعادوا قراءة مصنّفات الحجاج لتأكيد هذا المبدأ وتطبيقه على الخطاب الأدبي. ومن ذلك أنهم وظّفوا قراءاتهم لـ"مصنّف في الحجاج: البلاغة الجديدة" لبيرلمان وتيتكا[25] في المجال الأدبي، وتوصّلوا إلى أنه "لا يمكن دراسة البُنى الأسلوبية منفصلة عن أهدافها الحجاجية"[26]، وهذا يعني ضرورة النظر إلى الأسلوب في معناه البلاغي الجديد أي الحجاج من خلال طريقة عرض الخطاب عرْضا حجاجيا منظما على نحو معيّن للتأثير في المخاطب وتوجيهه وجهة يريدها المتكلم، ومن هنا يكون مجال اهتمام البلاغة الجديدة استراتيجيات الخطاب التي تهدف إلى إقناع المتقبّل والتأثير في موقفه بواسطة الوسائل اللسانية التي تسخرها اللغة للمتكلم. ولكن على الرغم من الدّور الذي لعبه هذا المصنّف في ردّ الاعتبار إلى الحجاج لا باعتباره بلاغة جديدة فحسب بل باعتباره حوارا، فإنّ مفهوم الحوارية في الحجاج لم يتضح بشكل كاف إلا مع التداولية المدمجة التي أرسى دعائمها كل من أ. ديكرو (O. Ducrot) وج. ك. أنسكومبر (J. C. Anscombre) وهي اتجاه حديث في الحجاج يقوم على دمج الدلالة (المكوّن اللغوي) والتداولية (المكوّن البلاغي) واعتبار الحجاج ماثلا في اللغة نفسها ومحكوما بشروطها وقيودها. ومن هذا المنظور فإنّ "ترابط الأقوال لا يستند إلى قواعد الاستدلال المنطقي وإنما هو ترابط حجاجي لأنه مسجّل في أبنية اللغة بصفته علاقات توجّه القول وجهة دون أخرى وتفرض ربطه بقول دون آخر"[27]. ومن العوامل التي جعلت كذلك التداولية المدمجة أساسا مساعدا على التحليل التداولي للخطاب الأدبي باعتباره حوارا الوقوفُ على الترابط الحجاجي في مستوى الخطاب الفعلي باعتباره توجيها للمتقبل نحو نتائج معيّنة، والاهتمامُ بالعوامل اللغوية التي تؤثّر في هذا التوجيه. ومن أبرز الأبنية اللغوية التي تضطلع بدور حواري-حجاجي عملُ الاقتضاء (présupposé) باعتباره مبدأ منظما للإطار الحواري-الحجاجي يوفّر للمتخاطبين مراجع مشتركة تيسّر توجيه المخاطب إلى النتائج التي يرمي إليها المتكلم وإدخاله في عالم اعتقاداته، والروابط الحجاجية (connecteurs argumentatifs) التي تلعب دورا مهمّا في تحقيق الترابط الذي يقوم عليه التوجيه الحجاجي باعتباره عملا منظما يتمّ وفق قواعد ومبادئ.
       وأما الاتجاه الحواري في تحليل الخطاب الأدبي فينطلق أصحابه من نفس المبدأ الذي انطلق منه أصحاب الاتجاه الأول، وهو أنّ "كل ملفوظ هو بالضرورة حواري"[28]، وقد ذكرنا سابقا أنّ الحوارية لم تتبلور مفهوما نظريا وآلية موظفة في تحليل الخطاب عامة إلا مع ديكرو وأنسكومبر اللذين أعطيا المفهومَ بعدا حجاجيا وميخائيل باختين الذي أعطاه بعدا أدبيا بالانصراف عن تحليل الخطاب عامة إلى تحليل الخطاب الروائي. وعندما أكد تودوروف في مقدمة كتابه "ميخائيل باختين ومبدأ الحوارية" على أنّ أهم مظهر من مظاهر التلفّظ والأكثر إهمالا هو حواريته، كان يحيل على المنطلق الذي بنى عليه باختين هذا المفهوم وهو أنّ "كلّ خطاب هو خطاب حواري موجّه إلى شخص قادر على فهمه والإجابة عليه إجابة حقيقية أو افتراضية"[29]، وينبّه بالتالي إلى أنّ باختين يقدّم تصوّرا جديدا للأسلوب لا يقول بأنّ الأسلوب هو الرجل نفسه، بل يقول بأنّ الأسلوب هو رجلان على الأقلّ. وبالفعل، فإنّ مفهوم الحوارية الذي تشكل متداخلا مع مفهوم "الأصوات المتعددة" أو "البوليفينية"[30] (polyphonie)، قد تمحّض في البداية لوصف الحوارية في روايات دستويفسكي (Dostoievski) باعتبارها خاصية مميزة للرواية الحديثة عن الرواية الكلاسيكية "المونولوجية". ثم أصبحت فيما بعد خاصية للرواية عامة ثم للكلام بصفة أعم، وعَرف المصطلح بعد ذلك استعمالات متعدّدة، فأصبح في لسانيات التلفّظ يعني خطابا يعبّر عن أصوات متعدّدة. وإذا كان الحوار باعتباره حجاجا كما ينادي به ديكرو متحققا في مستوى علاقة المتكلم بالمخاطب توجيها حجاجيا ماثلا في أبينة اللغة واستراتيجيات الخطاب، فإنّ الحوار باعتباره "أصواتا متعدّدة" كما ينادي به باختين متحقّق في مستوى العلاقة بين النص الحاضر والنصوص الغائبة، أو بين ملفوظ الكاتب وملفوظات غيره. وهذا الحوار لا يعني لديه مجرّد تداخل بين النصوص أو الأصوات بل هو أشكال حضور الآخر في خطاب المتكلم، لا صوتا فحسب بل وعيا وإيديولوجيا أيضا. ومن هذا المنظور يجسم كلّ تلفظ مهما كانت درجة ذاتيته تفاعلا وتحاورا مع تلفّظ الآخر على أساس أنّ اللفظ بطبيعته يحمل بداخله نواة تواصلية بين الأنا والآخر لا لأنّ كلّ نص هو امتصاص لنص آخر أو تحويل له فحسب بل لأنّه "من المستحيل على أي فرد من أفراد المجموعة اللغوية أن يجد كلمات محايدة تماما ومجرّدة من أي أثر من آثار الاستعمال، وغير مسكونة بصوت الآخر. إنّ الكلمة تظل ممتلئة، تتدخّل في سياق المتكلم الخاص انطلاقا من سياق آخر، وتقحم مقاصده. إنّ مقاصد المتكلم تجد أنّ الكلمة كانت قد سُكِنت"[31].



[1]) من أبرز الدراسات الرسائلية التداولية نذكر على سبيل المثال:
 la lettre entre réel et fiction, sous la dierction de Jurgen Siess. éd. SEDES. 1998.
[2]) انظر على سبيل المثال:
- Jean Michel Gouvard : Pragmatique outils pou l’analyse littéraire. Armand Colin. Paris, 1988
-  Dominique Maingueneau : Pragmatique pour le discours littéraire. Bordas, Paris. 1990. 
- Elfie Poulain : Approche pragmatique de la littérature. L’Harmattan, 2006.
[3](  Elfie Poulin: Approche pragmatique de la littérature. Ed. L’Harmattan, 2006. p 8.
[4]( Roland Barthes : introduction à l’analyse structurale des récits. : éd. Communications, Paris 1966.     
[5]( Rainer Warning: pour une pragmatique du discours fictionnel. In: Poétique n°39, sep. 1979. P322.
[6]) نفسه. ص 333.
[7]) محمد خطابي: لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب. ص 303.
[8]) نفسه. ص 305.
[9]) نفسه. ص 310.
[10]) نفشه. ص 325.
[11]) صالح بن رمضان: الرسائل الأدبية. ص 127.
[12]( Jon Arild Olsen: De l’analyse stylistique considérée comme explication intentionnelle. Romansk , n°16, 2002. p 669.
[13]) نفسه. ص ص 670-671.
[14]) للتوسع في أنواع المقصديات انظر مثلا: بوشعيب شداق: مقصدية العمل الأدبي بين التقييد والانفتاح. مجلة علامات، مج 14، ج 54. ديسمبر 2004. ص ص 446-456.
[15]( Dominique Maingueneau: Pragmatique pour le discours littéraire. p121.
[16]) فرناند هالين: التداولية. ترجمة عز الدين العوف. مجلة الآداب العالمية  عدد 125، سنة 2006.  ص 73.
[17]) نفسه. ص68.
[18]) راضية خفيف بوبكري: التداولية وتحليل الخطاب الأدبي. مجلة الموقف الأدبي. عدد 399، سنة 2004.  ص 15.
[19]) فرناند هالين: التداولية. ص 68.
[20]) صابر حباشة: الأسلوبية والتداولية. مجلة أفق الالكترونية. www.ofouq.com.  تاريخ الدخول  01 سبتمبر 2004.
[21]) اعتمدنا الفصل المترجم من هذا الكتاب والمشار إليه في الهوامش أعلاه.
[22]) فرناند هالين: التداولية. ص 69.
[23]) نفسه. ص 71.
[24]) نفسه. ص 73.
[25]( Chaim Perelman et L. Olbrechs Tyteca: traité de l’argumentation. Presses Universitaires de France, Paris, 1958.
[26]) عبد الله صوله: الحجاج: أطره ومنطلقاته وتقنياته. ضمن: أهم نظريات الحجاج... ص 317.
[27]) شكري المبخوت: نظرية الحجاج في اللغة. ضمن: أهم نظريات الحجاج ...  ص 352.
[28] (D. Maingueneau : Pragmatique pour le discours littéraire. P 18.
[29]( T. Todorov: Mickhail Bakhtine, le principe dialogique. Éd. Seuil, 1881. p 298.
[30]) للتوسع في هذين المفهومين انظر مثلا:
Dialogisme et polyphonie, approches linguistiques. Actes du colloque de Ceristy, De Boeck , Duculot,  2005.
[31]) نفسه. ص 77.