samedi 15 octobre 2011

في علاقة الشعر بالالتزام



ظلّت الممارسةُ النقديّةُ تلاحقُ الكتابةَ الشعريّةَ أو تدّعِي استباقَها واستشرافَ آفاقٍ جديدةٍ يمكنُ للكتابةِ الشعريّةِ أن تنفتحَ عليها وتغْتَنِي بها، ومازالت هذه الممارسةُ كما كانت دائما تهفُو إلى محاصَرةِ العمليّةِ الإبداعيّةِ وإدراكِ ماهيتِها والإمساكِ بآلياتِها التي بها تُفسّرُ كيفَ يكون الحدَثُ الشعريُّ وما يحدُث حين "يَمْثُلُ" الشاعرُ في "حضرةِ" الشعرِ ويعيش لحظةَ المكاشفةِ الشعريةِ.
غيرَ أنّ المسافةَ ظلّتْ قائمةً بين ما هفَا إليه النقدُ وما حقّقهُ بالفعلِ، فالشعرُ مازال نائيًا بنفسِه عن مُقرَّرَاتِ النقدِ ونظريّاتِه متكتِّمًا على أسرارِ الشعريّة فيه. ونتيجة المفارقةِ بين المتوَهَّمِ والحقيقةِ لم يستطع النقدُ أنْ يتخلّصَ عبر تاريخِه الطويلِ من متاهاتِه وأوهامِه ومغالطاتِه التي يُستباحُ الشعرُ باسمِها ويتلاشى في ما ليسَ منه. ويكفي في هذا السياقِ أن نقفَ عند مقولةِ الالتزامِ في الشعرِ، وهي ليست فكرةً حديثةً إذ حاول النقادُ القدماءُ أن يحاصرُوا الحدثَ الشعري فحصروا ماهيتَه في وظيفتِه واختزلُوا قيمتَه في ما يعبّرُ عنه من أغراضٍ وقيمٍ رتّبوها ونزّلوا القيمةَ الجماليةَ منزلةً ثانويةً وحوّلوها إلى وسيلة فطوَّعوا ما هو جميلٌ لما هو نافعٌ. وقد عبّروا عن هذه المقاربةِ بتصنيفِ الشعر القديمِ وفق أغراضٍ متعدّدةٍ لكنها قابلةٌ للاختزالِ في غرضيْن كبيريْن ومتعارضيْن هما المدحُ والهجاءُ اللذان تعاضدَا لينهَضَا بوظيفةٍ رئيسيةٍ هي مدحُ الفضائلِ المتَّفَقِ على تمجيدِها وذمُّ الرذائلِ المتَّفَقِ على تحقيرِها. وهذا يعني أنّ "الغرَضِيَّةَ" التي تحكّمت في "صناعةِ" الشعرِ القديمِ ونقدِه لم تكن طريقةً في بناء القصيدةِ أو موضوعًا لها بقدر ما كانت طريقةً في الحضور في الكونِ وتعبيرًا عن هيمنةِ الرؤيةِ البيانيةِ على تصوُّر العربِ للكلامِ ووظيفتِه عموما.
ولئن بدا للبعض أنّ الشعراءَ والنّقّادَ المعاصرين قد تحرّروا من هذه الرؤيةِ وحرّروا الشعرَ من الغرضيةِ وتجاوزوا الوظيفةَ إلى الماهيةِ وتحوّلوا من الشعرِ إلى الشعريةِ، إلا أنّ المتمعّنَ في العديدِ من الكتاباتِ الشعريةِ والنقديةِ المعاصرةِ يستنتجُ أنّ المجاوزَةَ شكليّةٌ ومحدودةٌ وأنّ النظريةَ الشعريةَ القديمةَ بقيت ممتدّةً ومندسّةً في ثنايا المدوّنَةِ الشعريةِ والنقديةِ المعاصرةِ تعبّر عن نفسِها بأشكالٍ ومفاهيمَ مختلفةٍ لعلّ أبرزَها ما يُسمَّى بالالتزامِ. ومع أنّ العديدَ من النقّاد والشعراءِ المعاصرين رفضُوا تواصلَ الغرضيّةِ وتمرّدوا على مقولةِ الالتزامِ في الشعر واعتبروه إلزامًا للشاعر وتقييدًا للإبداع وحكمًا على الشعرِ بمفاهيمَ ومقولاتٍ غريبةٍ عنه تجعله يتلاشى في ما ليس منه، وحاولوا تشغيلَ مفاهيمَ أخرى مثلَ حريةِ الإبداعِ والصدقِ والتجربةِ والحسِّ الشعري والتفاعلِ والرؤيةِ أو الرؤيا وغيرِها من المقولاتِ... وهي في نظرهِم تَحمي الشاعرَ والشعرَ من الوقوعِ في خطاباتٍ غيرِ شعريةٍ كالخطابِ السياسي والإيديولوجي. غير أنّ السؤالَ الذي يبقى قائما هو: إلى أيّ حدٍّ تخلّصت الكتابةُ الشعريةُ والنظريةُ النقديةُ المعاصرتان من الرؤيةِ البيانيةِ القديمةِ واستطاعتا تحقيقَ حداثةٍ حقيقيةٍ؟
ومادام سؤالُ الحداثةِ يفضي بنا إلى سؤالِ الشعريةِ تكونُ الأسئلةُ المطروحةُ هي: كيف تتحدّدُ درجةُ الشعريةِ في النصِّ الشعريِ العربيِ الحديثِ؟ وهل تُوجَد معاييرُ شعريةٌ دقيقةٌ (علميةٌ أو عالميةٌ؟) تُقاسُ بها شعريّةُ النص؟ وحتى إذا افترضنا وجودَ هذه المقاييسِ فمن الذي يحدّدُها وكيف تُطَبَّقُ دون إلغاءِ ما به يكون النصُّ شعريًّا: فرادته ودرجة العدول وكثافة الانزياح فيه؟
على مَن يتبنَّى فكرةَ الالتزام أنْ يجيبَ أوّلا عن هذه الأسئلةِ إجاباتٍ متأنّيةٍ ومقنعةٍ ثم عليه بعد ذلك أن يحدّدَ مفهومَ الالتزام الذي يدعُو إليه ويفسّر بشكلٍ واضحٍ ما يقصد بهذا المفهومِ، إذ الشعرُ لا يأتي من الفراغِ ولا كتابةَ بدون مضمونٍ أو قضيةٍ ما. لا وجودَ لشعرٍ "صافٍ" أو "شعرٍ للشعرِ" فالشاعرُ مهما أوغلَ في الغموضِ والرمزِ والتعقيدِ لا يكتُبُ لمجرّدٍ الرغبةِ في الكتابةِ وإنما يكتُبُ لأنّ له ما يقولُ بغضّ النظرِ عن مضمونِ القولِ وغرضِه. إنه دائما يقولُ شيئًا ما حتّى إذا كان هذا "الشيءُ" غامضًا لا يمكنُ أن يسمَّى أو يحدَّدَ. وليسَ صحيحًا ما ذهبَ إليه الجاحظُ من أنَّ المعانيَ مطروحةٌ في الطريقِ وأنّ فضلَ الشاعرِ في اللفظِ وطريقةِ التعبيرِ عن المعنى لأنّ الشاعرَ لا يقولُ المعنَى المطروقَ والمُلقَى في الشارع بل يبدعُ "المعاني الدِّقاقَ" بعبارة المتنبّي ويخلُقُ فضاءً دلاليّا وتخييليًّا جديدًا حتى وإن كانت المادةُ اللغويةُ التي يشكّلُ بها هذا الفضاءَ معروفةٌ ومشترَكةٌ. وقد تكون فكرةُ الالتزام مطلوبةً في الفعل السياسي والنضالي ولكنْ كيفَ نطلُب من الشاعرِ أن يكون ملتزمًا ومبدعًا في نفس الوقت، والحالُ أنَّ الإبداعَ حُرّيةٌ أو لا يكونُ؟
وقد يرَى البعضُ أنّ الالتزامَ والإبداعَ لا يتعارضان وهو في ذلك يستحضر تجاربَ شعريةً لكبارِ الشعراءِ المعاصرين أمثالِ محمود درويش ومعين بسيسو وسميح القاسم ومظفر النواب وغيرهم كثيرون، فيُعرّف الشاعرَ المبدعَ تعريفًا سياسيًا بأنه من يُعبّر عن قضايا أمّتِه ويصوّر معاناةَ شعبِه وتطلّعاتِه. والسؤالُ المطروحُ هو: أكانَ هؤلاء الشعراءُ مبدعين لأنهم ملتزمون أم كانوا ملتزمين لأنهم مبدعون؟ وإذا كان لا بدّ على الشاعر أن يكون ملتزمًا فبِمَ يلتزمُ؟ المهمُّ أنّ الالتزامَ في الشعرِ- إن كان لا بدّ منه- يجب أنْ يتخلّصَ من مدلولِه السياسيِ المباشرِ والضّيّقِ إذ هو لا يعني اعتناقَ الشاعرِ إيديولوجيَا سياسيةً أو فكريةً والنضالَ من أجلها وتسخيرَ القصيدة لتكون أداةً من أدواتِ النضالِ وسلاحًا من أسلحة الصراعِ لأنّ هذا الفعلَ قد يجعلُ من "الملتزمِ" مناضلاً كبيرًا ولا يجعلُ منه شاعرا مبدعًا، والأمّةُ قد تربَحُ رمزًا وطنيًا وتخسَرُ شاعرًا عظيمًا. وقد تكون الرؤيةُ السياسيةُ التي يتبنّاها الشاعرُ رافدًا من روافدِ القصيدةِ ولكنْ حين تكونُ هذه الرؤيةُ متحكّمةً فيها وموجّهةً لها ومُحدّدةً لمضمونِها واتجاهِها يصبحُ الشعرُ مُهدَّدًا بالانكفاءِ والتلاشِي في ما ليسَ منه، إذ من الضّروري أنْ تَخضعَ الرؤيةُ السياسيةُ للرؤيةِ الشعريةِ لا العكسُ، فالشاعرُ لا يكتفي في رؤيتِه بالتعبيرِ عن اليومي المباشِرِ المُتغيّرِ، ولا يقنعُ في خطابِه الشعري بما هو تقريري وتحريضي.. إنّ الشاعرَ ملتزمٌ أبدًا، غير أنّ الالتزامَ في الشعرِ لا يكون إلا التزامًا بالشعرِ، والإيديولوجيا الوحيدةُ التي يتبنّاها الشاعرُ هي إيديولوجيا الإبداعِ: عليه أن يُخضع شعرَ السياسةِ لسياسةِ الشعرِ. صحيحٌ أنّ الشاعرَ كغيره من الناس ذاتٌ منخرطةٌ في حركة التاريخ ومتفاعلةٌ مع الواقع تأثّرا وتأثيرا، إلا أنّه حين يمْثُل في حضرة الشعر ويُطلُّ على مدارِه ويُكاشفه يُحوّل العاديَّ واليوميَّ إلى مُطلَقٍ ورمزيٍ ويحاول بلغة الشعر أن يقولَ الغيابَ والمتخفّيَ ويلتقطَ ما يقبَعُ وراءَ سطحِ الواقعِ من أسطوري وإنساني وجوهري. إنه قدَرُ الشاعر أن يكون هناك في المابيْن: لا هو يَحْجِبُ الواقعَ ويطمسه ويُهمله ولا هو يتلاشى فيه. إنه في حركة جدلية مستمرة تظل فيها القصيدةُ تراوُحًا دراميا بين اليومي والأبدي وبين الواقعي والأسطوري، وبين المباشر والرمزي. ومن هذا المنطلق أخذ النقدُ الحديثُ يرصد هذه الحركة المتوتّرةَ في القصيدةِ الجديدةِ ويستعمل من أجل ذلك مصطلحاتِ ومقارباتِ أخرى تدور حول معاني الانحرافِ والانزياحِ والفجوةِ ومسافة التوترِ... هكذا أخذ النقدُ يعيدُ النظر في فهمه للنص الشعري ويعيدُ صياغة مفاهيمه ومصطلحاته ويؤسّس لنظرياتٍ تراعي خصوصيةَ الكتابةِ الشعريةِ المفتوحةِ دوما على المجاوزةِ والتجريبِ والمتمرّدةِ على كل أشكال القهرِ والقمعِ والاستباحةِ والإكراهِ... وعدمِ الوصول لأنّ "أيَّ وصولٍ وَأْدٌ للقصيدة فقدَرُ الشاعر أن يواصلَ السفرَ ويستخلصَ من الدروب دروبًا... هذا هو قدَرُ الشاعر وعذابُه، وهذا هو امتيازُه أيضا" كما يقول محمود درويش نفسُه.